بط
ولة في وجه الطوفان
(فرمان علي خان) ..يسطر معاني الفداء في اليوم الرهيب وأهالي جدة يطالبون بتخليد ذكراه وتكريم أسرته
جدة - ياسر الجاروشة
قام والد فرمان شهيد سيول جدة الذي أنقذ 14 شخصا من سيول وكارثة بمحافظة جدة ثم غرق نتيجة محاولته إنقاذ المزيد من المتضررين من السيول بزيارة مكتب الندوة بإسلام آباد، وبرفقته ولده محبوب الرحمن وأخو زوجة الفقيد فرمان والتقوا بمدير المكتب.
تأتي الزيارة بعد يومين من زيارة وفد الندوة إلى أسرة الشهيد فرمان في مدينة سوات ( والتي لم يكن والد الشهيد موجودا في البيت حينها ) حيث قدم وفد الندوة مساعدة مالية عاجلة للأسرة . من جانبهم أكد الضيوف على لسان والد الشهيد عن شكرهم وامتنانهم الكبير للندوة في مواساتها الكريمة وتقديم المساعدة المالية العاجلة لأسرة الشهيد ، والتعهد بكفالة بنات الفقيد .
كما رحب مدير المكتب بهذه الزيارة الكريمة ووعدهم بمواصلة الندوة لرعاية هذه الأسرة الكريمة بكل خير، وتم الدعاء للفقيد بان يتغمده الله بواسع رحمته وان يتقبله في الشهداء مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
كما قام الوفد بجولة تفقدية لقرية الشهيد الفقيرة ووقف على بعض الاحتياجات الماسة والضرورية للقرية وهي : بناء مسجد القرية المهدم نتيجة الحرب في سوات منذ فترة، وبناء مدرسة بجوار المسجد.
حياة البطل في سطور
تتكون أسرة الشهيد من والده: الشيخ عمر رحمن، وهو رجل طاعن في السن، صاحب دكان في القرية وللشهيد فرمان (4) إخوة، و(5) أخوات.
تزوج فرمان منذ سبع سنوات، وأنجب ثلاث بنات (زبيدة 7 سنوات ، مديحة 6 سنوات ، وجويرية 4 سنوات) والأخيرة لم يرها لأنه لم ينزل إجازة إلى قريته الصغيرة (وادي سوات) منذ فترة طويلة، وكان يعتزم السفر إليهم إلا أن القدر كان أسرع.
لم يكن (فرمان)، ذا اهتمامات كبيرة، أو طموحات صعبة، كان طيب القلب تغلب عليه السماحة ودماثة الخلق، مع جميع سكان الحي الذي يعيش فيه، وكان متواضعاً إلى درجة كبيرة..عاش بسيطاً جداً من خلال البقالة التي يعمل بها منذ ساعات الفجر الأولى وحتى ساعة متأخرة من الليل.
ويحكي صديقه المقرب (شاه خان) : أنه تلقى من فرمان اتصالا قبل موته، وأنه طلب منه عدم الخروج من البيت بسبب مياه السيل التي غمرت شوارع الحي الداخلية وجرفت السيارات في طريق مكة جدة القديم، وأن فرمان أوصاه في آخر اتصال بينهما بأن يذهب إلى دار ابن عمه للاحتماء من السيل والاحتفاظ بالدواء الذي اشتراه لوالدته في باكستان وإيصاله لها وكأنه كان يشعر بأنه لن يتمكن من إيصال الدواء.
ويضيف شاه أنه ترجّى فرمان أن يخرج من مياه السيل ولكنه أصر على مواصلة إنقاذ المحتجزين.
شيء غريب وكأنه على موعد مع الموت، فأراد أن يستعد للقياه ويكلل حياته بمحاسن الأعمال، في ذلك اليوم المهول حيث يَحكي جيرانه ومعاشروه في الحي الذي يقطنه، أنه ظل يوم استشهاده مستيقظا طوال الليل يقرأ القرآن الكريم، وقبيل آذان الفجر، خرج مسرعاً إلى المسجد المجاور للبقالة التي يعمل بها كبائع، وبعد الصلاة عاد إلى البيت وكان في قمة النشاط والانشراح والبشاشة، مستنير الوجه يكثر من ذكر الله، يداعب أصدقاءه، وكأنه يودعهم.
لم تكن له أي مشاكل، رغم أنه أعزب في بلاد الغربة، وكان كثير الصلاة والذكر، ومن المواظبين على الصلوات جماعة في وقتها، إضافة إلى مساعدة كل من يريد الاقتراض من البقالة من المعسرين والفقراء من سكان الحي.
وحين هجم السيل على الحي كان في مقدمة المهرولين لإنقاذ المحتجزين، وقد حاول أقرباؤه أن يمنعوه، ولكنه أصر على أن يسطر معاني البطولة في اليوم الرهيب.
يتفق أهالي جدة بأن هذا الرجل لابد أن يخلد في ذاكرة المدينة ، ويطالبون بشارع أو ميدان يحمل اسمه والتكفل برعاية أسرته مادياً مدى الحياة، عرفاناً بصنيعه وجميله فالأبطال لا يجب أن يمروا مرور الكرام وهم غالباً ما يولدون من رحم المصائب.
ومن جملة مواقفها الإنسانية النبيلة تحركت الندوة العالمية للشباب الإسلامي عبر مكتبها الإقليمي بإسلام آباد لتكون أول من يصل إلى أسرة الفقيد، وزيارتها ، في إحدى القرى الفقيرة الواقعة بمنطقة (خوازة خيلة) في مدينة (سوات) الواقعة جنوب مدينة (بشاور) عاصمة إقليم (سرحد) أحد الأقاليم الأربعة لباكستان.
لن تنسى جدة ذلك البطل (فَرَمَان عَلي خَان) شاب باكستاني بلغ الثانية والثلاثين مِن عمره، لم يكمل الثالثة والثلاثين؛ لأنه مات غريقًا في (كارثة سيول جدّة) بعد أن أنقذ أربعة عشر إنسانًا، كانوا عالقين وسط مياه الأمطار، ومعلّقين على أغصان الأشجار في (الكيلو 13) جنوب شرق جدة ، حيث ربط جسده المفتول بحبال ووثقها بأنابيب الصرف التي كانت مهملة على قارعة الطريق، غير أن الموج الهادر، غدر به في آخر جولة إنقاذ، وجرفته مياهه الثائرة في محاولة الإنقاذ الخيرة.
عمل بطولي تندر أن نسمع بمثله في هذا الزمان.. يُقَدّم (فرمان) حياته لإنقاذ من لا يعرِفهم. قدم اليُتْم لبناته الثلاث لنجدة أولئك المساكين.
تنازل عن بقية سنين عمره، ليهبها للآخرين، وقدم درساً في الشجاعة حرياً أن يدرس للأجيال ويتسامع به الصغار لتترسخ فيهم معاني الشجاعة الإقدام.
لن تنساه جدة.. لن تنسى ذلك البطل المقدام، الذي ضرب فيها أروع مثال للبطولة والفداء.. أنقذ أناساً أوشك السيل أن يفترسهم بمخالبه العاصفة، ويحرمها من الحياة.
لن تنساه قلوب أبناء ذلك الوطن الوفي، الذين طالبوا بتخليد ذكراه وإكرام أهلة وفتياته اليتيمات.
كثيرون قد ينسبوك للجنون إذا سمعوا خوارق ما فعلت، ولكنهم لا يعرفون أن لديك نفساً سامية، تبذل روحها للآخرين.. كثيرون يوم الهول فروا يا بطل ولكنك ثابت لم تهلع، وجلد لم تتزعزع، لا تهاب المخاطر، ولا يهولك السيل الجارف، كثيرون في هذا الزمان قد يضحون، ولكن بذلهم لا يمكن أن يمتزج بالفداء وحب الناس كما عبر صنيعك.
فحقيق أن تكون مثلاً للبطولة.
وحقيق أن تكون قدوة للفداء
وحقيق أن يتغنى بك الشعراء
وحقيق أن يحكي جهادك الأدباء.
فمثلك من تندر الزمان بمثلهم.
وإذا كنا نتحدث عن البطولة اليوم فلا أعرف عمن نتحدث ونذكر غيرك يا بطل.
ولا أعرف حينما يحكى لبناتك الصغيرات عن قصة شجاعٍ من الشجعان، كيف يعجبون به وهم يعلمون أن أباهم بزه بطولة وشجاعة.
وقد أعجبني ما قيل فيك: ( كان لا يجيد العربية متلعثماً في كثيرٍ من حروفها إلا أنه كان يجيد لغة الشهامة بفصاحة مطلقة قد يعجز الكثيرون عنها من أهل الضاد.)
الجميع رأيناهم يبحثون عن متاعهم المفقود، وينتشلون مفقوداتهم الثمينة، ولكنك كنت تبحث عن أغلى من ذلك وأثمن، إذ كنت تنتشل الأرواح خشية أن يصيبها عادي الموت الذي يقذف به السيل المدرار.
تحياتي
أسير القلم